نشر للمترجم: كيف سحر القرآن العالم (وكيف أعاده سيرته الأولى)

Home / Uncategorized / نشر للمترجم: كيف سحر القرآن العالم (وكيف أعاده سيرته الأولى)

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يسعني إلا أن أنشر مقدمة أخي وصديقي مازن عكاشة، صاحب دار نشر البحر الأحمر، الذي شرفني بتكليفي بترجمة الكتاب، وتعريفه بالكتاب إلقائه الضوء على بعض خلفياته وما أرادته به مؤلفته.

وأنتهز هذه الفرصة لأكرر شكري وامتناني لأخي وصديقي مازن، أبو ليلى، راجيا الله أن يجعلني خيرا مما يظن وأن يغفر لي ما لا يعلم

1- كيف سحر القرآن العالم

أولا وقبل أن ندخل في الكتاب، يجب أن نتعرف على السيدة أنجيليكا نويفيرت.

البروفيسور أنجيليكا نويفيرت هي واحدة من أهم العاملين في حقل الدراسات القرآنية على مستوى العالم، إن لم تكن أهمهم على الإطلاق. أسست في برلين “كوربوس كورانيكوم” وهي مؤسسة بحثية شديدة الطموح وموضوع تحت تصرفها ميزانية بحثية هائلة، يعمل بها باحثون من أصول متعددة من الشرق الأوسط، فمنهم الإيراني ذو اللغة الفارسية ومنهم السرياني الأصل واللسان ومنهم العبراني اليهودي وبطبيعة الحال منهم العربي والألماني وجنسيات أخرى متعددة. يقوم المركز بجمع كل ما له علاقة بالنص القرآني ما استطاعوا الى ذلك سبيلا أو تصويره وتوثيقه إن استحال هذا الأمر. قام المركز بإجراء مقارنة بين جميع الشقاف والبرديات واللفائف والمطويات وذلك للتحقق إن كانت هناك اختلافات بين النصوص وبعضها، ثم قام المركز بالبحث في المقاربات بين القرآن والنصوص الكتابية سواء أكانت نصوص معتمدة أو ابوكريفية (المعتمدة هي ما أقرت الكنائس على انتمائها الى الكتاب المقدس، والابوكريفية هي ما رفضت الكنائس اعتباره مقدسا واعتبرته منحولا، مثل انجيل الطفولة وانجيل برنابا وغيرها الكثير)

يقوم البحث على إيجاد مقاربات بين القرآن وهذه النصوص على مستويات متعددة منها البحث في الظرف التاريخي العام لهذه النصوص اجمالا وهي ما اصطلح البحث العلمي على تسميته (العصر الكلاسيكي المتأخر) ثم البحث عن منهج كل نص على حدة ولماذا اتبع هذا النص ذلك المنهج وبناءً على أي ظرف تاريخي كان يمر به، ثم تتبع بعد ذلك ما يطلق عليه المنهج “الفيلولوجي” وهو ما يعني ببساطة البحث استنادا على علم اللغة صرفيا ونحويا واسلوبيا ودلاليا وفي النهاية تاريخيا من حيث المعنى التاريخي لمفردة ما في زمن ما قبل ان تتغير هذه المفردة على مدار التاريخ وبالتالي ينحرف معناها عن المراد منها وقت رصدها المتعين.

كي يقوم الفريق البحثي بهذا كله، فهو عليه أن يستعين بعلماء لغات قديمة وعلماء تاريخ وآثار وربما عليهم في بعض الأحيان ان يستعينوا بعلماء جغرافيا وجيلوجيا لتفسير أمور معينة ورد ذكرها في الكتب المقدسة (او غير المقدسة مثل الابوكريفا) ومحاولة قراءتها في ضوء أبحاث الاثار المستندة الى الجيلوجيا والاركيولوجيا. بعد أن يقوم الفريق بتجميع النتائج يتم رفعها الى متخصصين في التفسير ومقارنة الأديان بالاشتراك مع متخصصين في التفسير وعلوم “الهيرمينويتيكا بمعنى القدرة التأويلية لنص ما، وهو علم يحاول ان يكون منضبطا الى أقصى ما تتيحه طبيعة العلوم الإنسانية”. بعد كل هذا تجري تنفيذ “المخرجات” من هذا الفريق البحثي في شكل كتب ومقالات إما في شكل مطبوع او مرئي أو حتى “رفعه” على موقع المركز الاليكتروني (صور الصحائف القرآنية التي قام المركز بتوثيقها كلها أو معظمها مرفوع على صفحتهم، كذلك مقالات وكتب كاملة او أجزاء منها وبطبيعة الحال أخبار ونشاطات المركز ومؤتمراته البحثية التي يعقدها او يشارك فيها).

تأتي الخطوة النهائية التي يقوم بها المركز في شكل “الاشتباك مع المطروح المضاد في النتائج” حيث يصدر المركز مطبوعاته بطبيعة الحال ولكنه ولأنه يتبنى رؤية ومنهجية متعلقة بالقرآن، فهو يرفض بالتالي النتائج “الخصوم” التي ينتهي إليها باحثون آخرون ويقوم بالاشتباك معها وتفنيدها.

من أشهر “الخصوم” الذين اشتبك معهم المركز كانت أطروحة الباحث الألماني السرياني الأصل ذو الاسم المستعار “لوكسينبورج” التي تقول بأن القرآن أصله سرياني وقام لوكسينبورج بإعادة قراءة القرآن رادا كلماته العربية الى أصول سريانية (اعتمادا على الأصل المشترك للغتين) وقال في النهاية بأطروحته وهي أن اصل القرآن سرياني، وهي أطروحة أثبتت أنجيليكا نويفيرت وفريقها البحثي تهافتها التام، إلا ان هذه الاطروحة اكتسبت شعبية جارفة في أوساط غير المتخصصين وأفردت لها مساحات كبيرة في الاعلام حتى انني سمعت أن المذيع المصري إبراهيم عيسى قام باستضافة لوكسينبورج في برنامجه وشرح نظريته هذه التي اثبتت نويفيرت ضحالتها العلمية كما سبق القول.

من أشهر “الخصوم” كذلك كانت الباحثة فائقة الشهرة عالميا وعربيا “باتريتشيا كرونه” وهي دانماركية الأصل عملت سنوات طوال في الولايات المتحدة قبل ان ترحل قبل أعوام قليلة وكانت تتبنى نظرية تقول بأن القرآن كتب في زمن الامويين وذلك بهدف إيجاد إطار أيديولوجي لحركة التوسعات العربية الاموية وان كتابته كانت بهدف امبراطوري امبريالي (غطاء أيديولوجي يبرر الغزو وتسميته فتحا ويبرر الاستيلاء على الدول الأخرى وتسميته هداية للإسلام) وأثبتت نويفيرت مدى ضحالة هذه النظرية أيضا تماما، وهناك العديد من الكتب التي الفتها باتريتشيا كرونه جرت ترجمته الى العربية ومنها تجارة مكة والهاجريون وغيرها)

ما هو طرح نويفيرت إذن إذا كانت رفضت لوكسينبورج وكرونه؟

نويفيرت تقول -بمنتهى الاختصار ودون تقعيد طويل – أن القرآن هو نص أتى ليقول كلمته ويشارك في الحوار الذي كان مشتعلا في زمانه أي زمن الوحي، وأن القرآن أحدث انقلابا ثوريا هائلا وألغى مفاهيم ورفض معايير واسس لحياة جديدة قوامها العدل والرحمة ومصلحة الانسان الفرد!

كيف هذا؟

نأتي للتفاصيل:

من المصطلحات شديدة الأهمية عند نويفيرت هو مصطلح “العصور الكلاسيكية المتأخرة” وهو مصطلح تعني به القرون من الثالث الميلادي حتى الثامن وربما التاسع الميلادي، وترجع أسباب انشغال الباحثين بهذه الحقبة الى كونها الحقبة التي صبغت وصاغت أفكار عالمنا الذي نعيش فيه حتى الان، فهي حقبة التحولات الكبرى في تاريخ البشرية، حقبة صياغة الدين كما نعرفه اليوم، حقبة مفارقة الأديان القديمة الطوطمية او الأسطورية وسيادة الأديان التجريدية الفكرية، حقبة كان يسودها القلق وتطرح فيها الاكار الوجودية الكبرى، ودعت فيها اليهودية الى الابد مظاهر الوثنية فيها وكتبت فيها التلمود والمشناة وهما عصارة الفي سنة من الجال الداخلي عن الدين والرب واسمه وسمته وجسده او لا جسده، اختلطت فيها وتاثرت بأفكار الفلسفات اليونانية والمصرية القديمة وبمعايشات اليهود للنفي والتشريد ووقوعهم عبيدا في ظل حضارات كبرى لاشك وانهم تأثروا بها بحكم كونهم المغلوبين، كما انهم في تفرقهم تعددت نتاجات أفكارهم وخرج منهم تلمود في بابل وآخر في القدس وخرجت عنهم جماعات واستقرت بعيدا وصاغت صياغات أخرى في صحراء الأردن بينما رفضت جماعاة منهم الطرح اليهودي بأكمله بما فيه الاسم نفسه واطلقوا على انفسهم “سامريين”….. كل هذا على مستوى اليهودية، أي انه كانت هناك لخبطة شديدة وتخبط أشد.

على مستوى المسيحية كان التخبط أكثر وأكبر، فبينما كانت تنزل اليهودية من عالم الاساطير الى عالم الأرض، كانت المسيحية تذهب في الاتجاه المضاد، فكانت تترك عالم الأرض لتقول ان نبيها هو الإله نفسه، وأن البشر الذي كان يعيش بين الناس ويأكل الطعام ويذهب الى الأسواق، هو الإله بألف لام التعريف والحصر.

ولكن كيف؟ كيف نزل الإله الى الأرض ولماذا الآن ولماذا هنا وليس هناك وهل الإله محدود الى هذه الدرجة؟ وهل يمكن “تحييز” الإله أي وضعه في حيز جسدي، وهل يطيق هذا الجسد الضئيل الألوهية ذاتها؟ ولكن مهلا…. هذا البشر تمت ولادته من امرأة! فهل جرت ولادة الإله إذن؟ فعلا؟ وهل يقال إذن ان هذه المرأة هي أم الإله؟ فهل هي إلهة إذن؟ ولم لا، ألم تحوي وتلد الإله ذاته؟ هناك إذن إلهان؟

أسئلة بلا نهاية! وفي الواقع وفي الحقيقة ومهما حولنا التجمل هي أسئلة لم تنته حتى الآن!

لا أريد أن أدخل هنا في الإجابات التي طرحت وسيقت آنذاك، فهي إجابات شغلت المسيحية منذ زمن قسطنطين في القرن الرابع الميلادي حتى اليوم. اشتعل الصراع مبكرا بين لاعبين أو مدرستين رئيستين، الأولى هي مدرسة انطاكية العقلانية الشهيرة التي قامت على أساس المنطق الارسطي وأعملت العقل في المسيح حتى انها في بعض تخريجاتها قالت بأنه بشر نبي وفي البعض الاخر قالت بأنه بشر وإله، وكانت المدرسة الأخرى هي مدرسة الإسكندرية وهي متأثرة بفكر الأفلاطونية المحدثة وهي فلسفة سكندرية روحية روحانية تشبه التصوف الإسلامي والقبالاه اليهودية، وتسيطر عليها أفكار غنوصية وقالت الإسكندرية بأن الاله هو نفسه المسيح منذ ان كان في بطن امه حتى مات على الصليب وأن من ولد من مريم هو الإله ولهذا فهي “ثيتوئوكوس” أم الإله وأن من مات هو الإله أيضا.

بين هاذين الفريقين شديدي التناقض كانت هناك فرق وفرق تحاول إيجاد حل وسط، وبينما ولاعتبارات سياسية اقتربت انطاكية من حل وسط، ظلت الإسكندرية على موقفها حتى نياحة البابا شنودة الثالث ولا ندري ما الذي سيسفر عنه التقارب المسكوني الذي لا يرفضه البابا الحالي مقارنة بالرفض القاطع من سلفه.

سنكون متفائلين كثيرا إن ظننا أن هذه هي كل الحكاية!

فإلى جانب المسيحية بكل أطيافها واليهودية بكل جدالاتها وتلموداتها كانت هناك اديان اخرى كثيرة متفرعة ومختلفة عنهما‘ فهناك المانوية في فارس وهي صيغة من المسيحية، وهناك البرديصانية في شمال العراق وهي أيضا صيغة مسيحية وهناك المسيحية اليهودية إضافة الى الزرداشتية وديانات الهند ومصر القديمة الفرعونية ووثنيات روما والاغريق والجزيرة العربية إضافة الى اديان قديمة مثل المندائية في العراق وهي ديانة لازالت موجودة حتى اليوم (لم أعدد هما صيغ المسيحية مثل الاريوسية والمرقونية والنسطورية والغنوصية والسابيلية وغيرها، فكل هؤلاء يقعون تحت مسمى مسيحية في النهاية ولكني أقصد هنا الديانات المغايرة للمسيحية)

أكان هذا هو المشهد وقت نزول القرآن؟

ليس بعد، ففي المشهد إضافة الى كل هذه الديانات وغيرها، كانت هناك منظومة القيم والأخلاق السائدة code of Ethics وهو في مكان يختلف عنه في الآخر حتى أن “نبيا” سريانيا مثل برديصان كتب كتابه عن حكمة الشعوب واختلاف عاداتها وقيمها وبالتالي حكمها على الأمور وكنا قد درسناه أثناء دراستنا للسريانية في برلين.

إذن نحن أمام لوحة موزاييك ضخمة للغاية، ولكنها متنافرة للغاية كذلك ولا شيء يجمعها وليس هناك “Authority” لنص من النصوص تقول بقول فصل ما هو بالهزل. ثم هبط الوحي ….

هل هو وحي؟ من السماء؟ هل محمد نبي؟ يوحى إليه؟ ومن السماء؟ هل الكتب الثلاث وحي من السماء؟ هل الإسلام هو الدين الأصح؟ هل قالت بهذا نويفيرت؟

كل هذه الأسئلة تثور في عقول ونفوس القراء وهي أسئلة للأسف (أو لحسن الحظ) لا تجاوب عنها نويفيرت مطلقا، وفي الواقع فهي أسئلة لا تزعجها كثيرا. هي أسئلة يسألها بعض المسلمين وكأنهم بحاجة الى شهادة من غربي بصحة إسلامهم، وللأسف (او لحسن الحظ) لا تقوم نويفيرت بإسكات هذه الشهوة.

نويفيرت لا تنشغل مطلقا بهذا السؤال ولا تطرحه من الأساس على نفسها، فهي تبحث للبحث ويؤرقها دوما السؤال عن العلم والحقيقة في ضوء معطيات الاركيولوجيا وعلوم اللغة والتاريخ وهذا هو كل مالديها حتى تخرج بكلام علمي موثوق أقرب ما يكون للحقيقة، فلم تستعمل نويفيرت في طول الكتاب لفظة “نبي” عند حديثها عن محمد الا مرة واحدة فقط بينما ظلت طوال الوقت تستعمل لفظة “مُبَلٍغ” كاسم فاعل من اللفظ “ابلغ” كما انها استعملت في التعبير عن القرآن لفظة “البلاغ” وترجمها الزميل صبحي شعيب بمصطلح “النص القرآني” وهكذا نجد أن نويفيرت لم تحاول ان تتبنى “رؤية” هذا الفريق أو ذاك الفريق، لم تشأ أن تحسب على هذا ولا ذاك.

تسير نويفيرت طوال كتابها هذا وكتبها السابقة كلها وفية للمدرسة الاستشراقية الألمانية الرصينة التي تتعامل “من الخارج” وتحاول الا تدع لأي انحيازات شخصية أثرا في التقويم البحثي وللحق وللحقيقة فهي من أعلى المدارس كعبا في هذا الامر، حتى أني أذكر ذات مرة حديث طالب لاهوت ألماني معي في الجامعة وكيف كان يتذمر ويشكو لي مدى قسوة “الحياد” العلمي الألماني من اساتذته في الجامعة في أمور اللاهوت، وكيف انه ربما عليهم التعامل بقليل من “الحب” مع اللاهوت الذي يدرسونه للطلاب!

الكتاب والسحر والمعنى

تتناول نويفيرت في كتابها هذا عالم الجزيرة العربية قبل الإسلام وتبحث في منظومة قيمها التي غلبت مصلحة القبيلة على قيمة الفرد، ورأت في الجاه والشهرة المعادل الموضوعي للفناء المحتوم في هذه الدنيا وكيف ان المجد هو الذي يخلد الذكر والأثر، ولهذا علت قيمة منظومة قيمية مثل الكرم والمرؤة والثأر والحمية وهي منظومة قيم جمعية في النهاية على حساب قيمة الفرد التي تراجعت تماما وتضاءلت حتى انتفت في ظل طغيان المجموع على الفردي، كانت القتل سهلا لأن روح الفرد غير ذات قيمة، بينما مجد القبيلة هو القيمة الأهم. كان مولد الانثى الفرد خطرا لأنه يهدد شرف المجموع / القبيلة حال وقوعها في الأسر، كان الكرم نذير فقر للفرد، ولكنه أصل من أصول القيم في القبيلة وهكذا وهنا اتى القرآن ليدلي بدلوه.

كانت اليهودية في المدينة وكانت المسيحية ذات تواجد في مكة، بل وحول الكعبة ذاتها وكانت الخلافات بينهما والخلافات البينية في داخل كل منها مسموعة الصدى في أوساط العرب الرحل الذين كانوا على تواصل بمسيحية فارس ومسيحية بيزنطة ومسيحية مصر ونجران والحبشة ثم بيهودية العراق حيث كان تلمودها قد فرغ للتو من كتابته او لا يزال يكتب وبيهودية القدس وتلمودها الآخر…. واتى القرآن ليقول كلمته…..

كان العالم كله في صراع، صراع فارس والروم (غلبت الروم في أدنى الأرض….) وبين العرب والعرب وبين العبيد والاسياد وبين الرجل والمرأة وبين القبائل تارة بالسيف وتارة بالقلم واتى القرآن ليحسم النزاع

كانت النفس الإنسانية تموج بالحيرة والغضب والتساؤل والقلق، قلق اليوم وقلق ما بعد الموت، وأين الجواب وأين المستقر.. وأتى القرآن ليشهد شهادته ويقدم الجواب…

أما عن السحر وهو عنوان الكتاب فتذهب بالمعنى نويفيرت الى عالم الاجتماع الألماني الأشهر على مر العصور وهو ماكس فيبير وتستعير من رؤيته لسحر الدين وتستخدمها في كتابها هذا بعد ان كتبت عن القرآن كتبا كثيرة متعددة.

تحدث ماكس فيبر عن علاقة الانسان بالدين وبعالم السماء المفارق، فرأى أن الانسان في العصور البدائية الأولى وجد نفسه في العالم الواقعي على الأرض وأخذ في طرح الأسئلة عن خلقه وخالقه ووجوده ومعناه فقام بصياغة الدين في شكل سحر وكان السحر هو وسيلته التعبيرية الأولى لمحاولة فهم الوجود والكون والخلق وكيف ان هذا التمثل ظل مواكبا للإنسان حتى اليهودية في صيغتها الأولى ثم المسيحية في تجلياتها عن التجسد الى أن هبطت بها الجدالات والواقع الى العالم الأرضي وأصبح العالم مريرا وواقعيا، بل ومأساويا.

تأخذ هنا بالضبط نويفيرت طرف الخيط من ماكس فيبير وتبني عليه في محاولة تحليليها /تفسيرها / تأويلها للظاهرة القرآنية، وتنتهي -باختصار شديد جدا مني الآن – الى ان القرآن كي يقوم بعمله ويمارس دوره في النقاش السائد زمن الرسالة، فإنه قام مبدئيا بسحر العالم، او إعادة سحره في مخيلة المؤمنين به وجماعة المؤمنين الأوائل وذلك عن طريق إقامة علاقات ووشائج قربى ونسب بينه وبين الشخصيات والأماكن الكتابية مثل النبي موسى والنبي إبراهيم وأماكن مثل سيناء والقدس وان القرآن قام بعملية ترميز نماذجية أو بالمصطلح الصعب “Typology” بمعنى اتخاذ شخصية او مكان في قصة قديمة (هنا الكتاب المقدس) وإقامة علاقة تذكر المؤمنين المعاصرين بأنهم سينجحون او سينتصرون مثلما نجح الاقدمون وانه في حالات فشل الاقدمين، فإن المحدثين سينتصرون لأنهم مدعومون بقوة إلهية، فنظر المسلمون الى انفسهم اثناء وجودهم حزانى في شعب ابن ابى طالب نظرة اليهود الحزينة في السبي البابلي ونظروا الى انفسهم في خروجهم من مكة مثل خروج اليهود من مصر ونظروا الى انفسهم وهم في المدينة يرنون الى العودة الى الوطن في مكة نظرة اليهود وهم يرنون الى العودة الى القدس وهكذا

طبقا لمنظومة ماكس فيبر، فإن القرآن سحر العالم في البداية وقام من ثم بالاشتباك مع العالم الواقعي، فأنصف العبيد ومنع وأد البنات، وبشر بعالم تسود فيه العدالة والرحمة، ثم لم ينتظر القرآن والإسلام ان يحدث إبطال سيء لهذا السحر مثلما حدث في السابق، فقام هو نفسه بـ “فك” هذا السحر في اثناء حياته هو، عندما استوى الامر وانتصر الإسلام، فقال هو نفسه ان الرسول سيموت اليوم او غدا، وان الله مفارق في السماء وان قيمة الدين تتمثل في العدل على الأرض الواقعية وان الرحمة هامة للنوع وللأفضلية والتميز الإنساني ولم ينتظر ان تجري على النص “سنة الأوليين” فيحدث تعديل وتحوير وتبديل، بل نفذ كل هذا اثناء حياة المبلغ، ولهذا فالعنوان الأصلي للكتاب هو” سحر القرآن للعالم، وإبطال هذا السحر في التاريخ” وهو عنوان كان يستحيل أن نضعه على الغلاف، لأنه لو لم يعرف الناس كل هذه الخلفية التي صدر عنها العنوان، لم يكونوا ليفهموه.

تقيم نويفيرت في ثنايا الكتاب وشائج قربى كثيرة بين القرآن وبين التوراة والانجيل، وتعقد مقارنات بين الفاتحة مثلا وصلاة “أبانا الذي” المسيحية وبين البسملة الإسلامية وبين أختها اليهودية “بشيم قرا يهوه”، كذلك تطرح أسئلة عن التثليث المسيحي واسم الله الثلاثي في البسملة (الله، الرحمن، الرحيم) ، تتناول الأهمية الكبيرة للقدس وتلوم على المسلمين وعلى خطابهم السياسي المعاصر إهمالهم لأهميتها الكبيرة في الخطاب التأسيسي للإسلام وتهيب بهم أن ينتبهوا إليها.

الكتاب تحدي كبير لعلماء المسلمين، تحدي في المنهج والمنهجية والقدرة البحثية والإمكانات، نويفيرت تجيد العربية والعبرية واللاتينية واليونانية القديمة والانجليزية والفرنسية والألمانية وتعرف من السريانية والسنسكريتية الكثير، نويفيرت أسست لأكبر مركز بحثي عن القرآن في العالم الغربي، نويفيرت لم تقل قط أنها أسلمت وظني أنها لن تقول، نويفيرت لم تهاجم القرآن ولم تقل أنه ليس وحيا من السماء كما أنها لم تقل أبدا أنه وحي من السماء.

الكتاب يقف شاهدا على مدى العزم الذي تملكه السيدة نويفيرت التي انجبت أربع من الأولاد وقامت بتربيتهم، الى جانب بحوثها القرآنية وعملها في اصقاع الأرض وتضلعت في الشعر العربي المعاصر والفلسطيني منه خاصة.

الكتاب يطلب منا أن نحاوره ونشتبك معه اشتباكا علميا خالصا يليق بهذا الطرح الكبير المتميز.

الكتاب رسالة الى باحثي مقارنة الأديان والدراسات القرآنية في العالم العربي والإسلامي أن يتعاملوا مع هذه المنهجية أخذا وردا، مدحا وقدحا، فلا يليق أبدا بنا أن نقف وننظر بينما تتقدم الأبحاث القرآنية الى هذه المستويات غير المسبوقة بينما لازلنا نحن نتعامل بمنهجيات الاقدمين الذين كانوا في أزمانهم سباقين وقادوا الدنيا ولكن آن الأوان أن نحذو حذوهم عزما ونجدد بعدهم نهجا. أخشى إن طال انتظارنا أن نجد أنفسنا يوما بعيدين كل البعد، بعد أن تكون هذه العلوم قد قالت كلمتها واستقرت نظريتها دون تفاعل ولا انفعال منا ونصير حينئذ مسًلمين بأطروحاتهم دون أن نستطيع الرد او النقاش.

أتت ترجمة الكتاب غاية في الدقة والتمكن والاحتراف، قام بها مترجم محترف امتلك ادواته تماما فهو درس الألمانية في الالسن بمصر ثم في بون بألمانيا في تخصص الترجمة وعمل بهيئة الإذاعة الألمانية في بون سنينًا عددًا ثم بوكالة الانباء الألمانية بالقاهرة ثم عاد الى برلين العاصمة ليمارس عمله في الترجمة مرة أخرى إلى جانب قيامه بالخطابة لصلاة الجمعة في مساجد برلين بالألمانية حتى لا يعرف المصلون أي اللغتين هي لغته الأم، هو حافظ لكتاب الله وأنجب من يحفظون كتابه في صدورهم وقلوبهم، ترجم كتابه هذا بمنتهى الدقة ولم يغير حرفا او معنى واحد على مدى الكتاب على طوله وقام بتسجيل الهنات والملاحظات في الهامش إعمالا للأمانة العلمية.

قمت أنا بالمراجعة ويشهد الله أني لم أرصد له هنةً واحدةً بطول الكتاب وقمت بتعديل بعض المصطلحات لظروف تخصصي العلمي الدقيق.

استكتبنا كذلك الأستاذ طارق حجي وهو باحث مصري شاب يعمل في مركز تفسير للدراسات القرآنية وهو باحث غاية في الدقة والتمكن ن ادواته في الدرس الاستشراقي الغربي وكتب لنا حواشي بلغت في بعض الأحيان صفحة كاملة ويزيد، كما كتب مقدمة صافية نافت على الاثنتي عشر صفحة قدمت لبحوث المستشرقين عن القرآن.

الكتاب مزود بصور وقمنا كدار نشر بحذف أو طمس بعض الأجزاء منها لما رأينا منها قد تجرح مشاعر بعض الاخوة ولتفادي اللغط حول الموضوع الأهم وهو أصل الكتاب.

يطلب الكتاب من موزعنا الحصري “مدارات للنشر”